الفصل الأول: البحث عن الحقيقة!
مرت الأيام والأسابيع وقد انجلت هموم عمر وتبدد غمّه إلا همّا ما برح يراوده كل ساعة ويكدّر عليه صفو عيشه..
إنه يبحث عن سر ذلك المشهد الغامض الذي تكرر مرتين!
بذل عمر جهده وأضناه التعب في البحث عن تلك الفتاة التي سحرت بعينيها عقله وقلبه ، ولم يجد لها أثر سوى ذلك الظرف المزخرف وتلك الرسالة التي تحمل في طيها المعنى العميق والقلب النابض ..
وبعد أن تعب من تلك الحال التي يعيش فيها جسدًا يخالط الناس هائمًا ، وروحًا تنفطر كل يوم شوقًا لنظرة أو همسة..
لم يكن بيده حيلة إلا أن يستسلم للقدر وألّا يبحث عنها أكثر ..
وكان يظن أن الأصلح له أن يمضي في حياته وأن يَجدّ في تحصيل بعض المال الذي يكفل له ولوالديه حياة كريمة في الحاضر والمستقبل..
أضحى يقلب الصحف والمجلات ليله ونهاره يبحث عن وظيفة جديدة لعلّه يبدأ من خلالها حياةً جديدة..
وبعد أسابيع خاض فيها العشرات من المقابلات الوظيفية واللقاءات التي كان يلهث وراءها كل صباح ومساء ويصمد في وجه كل يأس يداهمه بعد كل رسالة اعتذار ورفض ،، أتاه ذلك العرض الذي لم يخطر له على بال..
أتاه عرض وظيفة خاصة كمرافق ومساعد لأحد رجال الأعمال ويعرف باسم سليمان ، وكان من شروط العرض أن يكون مرافقًا له في حله وسفره..
فكر عمر في ذلك العرض وتردد كثيرًا فوالداه كبيران في السن ويحتاجان للرعاية والاهتمام ولا يدري ما يصنع!!
وقد مرت عدة أيام منذ أن صرف جميع ما تبقى له من المال ، وحالته النفسية تزداد سوءًا يومًا بعد يوم ،، والجميع يرفض أن يوظفه بشهادته الثانوية بالرغم من فطنته وذكائه وحسن مظهره ..
فلم يرَ بُدّاً من قبول ذلك العرض مؤقتًا ، وكان يحدث نفسه بأنه سيستمر في البحث عن وظيفة تناسبه وتضمن له قربه من والديه ورعايتهما ..
وفي نهاية الأسبوع الأول من مباشرته لتلك الوظيفة وفي مدينة إسطنبول تحديدًا ، حيث كانت فترة العشاء في أحد الفنادق الفارهة .. فيحدث نفسه متعجبًا منها ” يا الله ما الفرق بين حالي هذه وحالي تلك ، وهل أنا أسير على الطريق الصحيح ، أم أنني تسرعت وغامرت في خوض زوايًا في الحياة لم أعشها من قبل ولم أرتح فيها اليوم ولا أعلم إن كنت سأتأقلم معها فيما بعد !”
انتهى من تناول العشاء وبينما هو يرافق عمه سليمان لغرفته جشّ جسمه لسماع ضحكات ونبرة صوتٍ يعرفها جيّداً ،، التفت وراءه وراح يقلب نظره باحثًا عن مصدر تلك الضحكات التي حركت أنفاسه وتلك الهمسات التي أعادت الروح في صدره ..
راقب المشهد من حوله ولم يلفت انتباهه سوى ثلاث فتيات كنّ يمشين وجلسن إلى أحد طاولات الطعام ..
الفصل الثاني: محاولة كشف القناع ..
تحرك مسرعًا نحوهم ولم يُرْعِ سمعه لعمّه حين ناداه وهو يغادره من دون إذنه ، وتهافتت خطواته نحوهم من دون شعوره وحين اقترب منهم طفق ينادي بصوت خجول يحركه الشوق ” ندى ،، ندى ،، لقد سمعتك ،، إنها أنتِ بالتأكيد وأخيرًا وجدتك ” ..
التفتن إليه جميعهن في لحظة واحدة وقلّبْنَ نظرهن في عينيه وقامته ولسانُ حال كل واحدة منهن يقول “يا ليتني ندى” !
توقف نَفَسُهُ وجَمُدَ في مكانه ولم يصدق عينيه ،، فنظر يمينًا يقلب نظره ثم راح يقلبه عن يساره في ذهول واستغراب …
لا زال يشكّ في نظره ، فنزع النظارة عن عينيه فأغمضها وبدأ بفركها الأولى ثم الأخرى .. وعاد يقلب النظر كرّةً أخرى فلم يرَ شيئا يختلف عمّا رآه منذ لحظات مضت ..
شعر بالخجل الشديد والخيبة بعد أن صحى من ذهول عقله فغادر بخطى سريعة من أمام الفتيات ومن المطعم كله ..
ولم يكن ذلك أسوأ ما لقي ذلك اليوم بل كان التوبيخ الشديد في انتظاره حين عاد إلى عمه ، فما كان منه إلا أن يعتذر بشدة ويعده أن لا يعود لذلك مرّة أخرى ..
وفي صباح اليوم التالي: وبينما هو خارجٌ من غرفته إذا بتلك الفتاة تمر من أمامه في مشية متزنة ثابتة وفي ذلك القوام الطويل والرشيق ..
فإذا بقلبه يزداد نبضه وكأن شيئا ما يقبض على صدره ويشد به نحوها .. فأسرع خلفها يركض يحاول اللحاق بها ويمد بيده نحوها فإذا بها تسمع قرع نعليه فتلتفت إليه وتنظر نحوه ثم تحملق في عينيه !
فيقف مشدوها مذهولا ،، ويبدأ لسانه يردد” ندى ،، ندى ” وجدتك أخيرًا ..
فأجابته في ذهولٍ فاق ذهوله: عمر! لقد قتلني اليأس في البحث عنك وها أنا أجدك هنا بعد ذلك العناء كله!
فسالت دموع الفرح والشوق على خديها وفي خطوات مترددة تقدمت إليه وباعدت بين ذراعيها واقتربت منه أكثر تريد ضمّه إلى صدرها علّ لهيب الشوق يبرد قليلًا ..
نهض عمر من فراشه مذهولا ،، لا يصدق نفسه ولا يعلم أهو في حقيقة أم حُلم !!
نفض الغبار عن عينيه وعرف أنه كلما أراد البعد عنها ونسيانها زادت منه قربًا وزاد إليها شوقًا ..
الفصل الثالث: صراع مع الحقيقة
الأيام تتوالى والتهاب الشوق في ازديادٍ وحال عمر كالهائم على وجهه لا يسمع صوتًا إلا ويُخيّل إليه أنه صوت ندى ولا ينظر إلى امرأة إلا ويبحث عن ملامح ندى بين تقاسيم وجهها وجسدها ،، بل وأصبحت حقيقته كحلمه من كثرة ما يرى طيفها في المنام فيصحو على خيبة الأمل!
وفي ليلة من الليالي الباردة عاد إلى بيته متأخرًا بعد سهرة طويلة كان فيها برفقة عمّه .. فإذا به يرى أمه ممددةً على جنبها الأيمن بالقرب من باب الشقة .. فهال عليه منظر أمه وتقدم نحوها مسرعًا يتفقدها وقلبه منقبضٌ وخائف !
اقترب عمر من أمه أكثر وبدأ يربّت على كتفها بهدوءٍ تام ويناديها : أماه ،، أماه أتسمعينني؟
لم تجبه ،، وحاول مرة أخرى ورفع صوته في النداء فإذا بها تنتبه إليه والتعب يملأ عينيها بل وجسدها ،، فتجيبه : أهلا يا قرة عيني كنت أنتظرك ويبدو أني غفوت ولم أشعر بذلك .. كنت أنتظرك من أجل هذا الظرف لا أعلم من وضعه تحت الباب قبل ساعات وغادر.. خذه وهلّا فتحته وأبلغتني بما فيه..
انقطع نفسه من جديد وتأمل الظرف في يد أمه وخيّل إليه أنه ذلك الظرف الذي ينتظره منذ زمن بعيد ولكنه أبطأ في الوصول..
استلم الظرف وقال لأمه سأقرأه لك في الغد إن شاء الله ، أما الآن دعيني أساعدك وأوصلك إلى غرفتك لترتاحي..
ذهب إلى غرفته بعد ذلك وبدأ يتأمل ذلك الظرف دون أن يفتحه وسرعان ما شرد به فكره إلى الماضي ليعيش بعض الذكريات القديمة مع الظروف التي كانت تصل إليه في صغره فكان تارةً يفتحها ويتأمل ما بها من رسومات أطفال ملونة وتارة يعبث بها ويشخبط فوقها .. دون أن يسأل نفسه ولو لمرة واحدة “من الذي بعث بها إليّ؟!”
صحى من شروده وسأل نفسه : أيعقل أن واضع هذا الظرف تحت الباب هي ذاتها ندى ؟ وما بال ذكريات الطفولة ؟
ومع كل سؤال يسأل نفسه يزداد ألمًا وشوقًا ، إضافةً إلى ذلك الشعور الذي يخالطه ولا يقدر على وصفه !
فما استطاع إلا أن يضع الظرف تحت رأسه وينام !
الفصل الرابع: الظرف ..
وفي اليوم التالي استيقظ عمر في وقت متأخر فلم يحس بالمنبه ولم يسمع رنين الجوال حين انهالت عليه اتصالات عمه ومن معه..
صحى وتذكر ذلك الظرف المغلق تحت وسادته ، فتناوله وفتحه فإذا به يخرج الورقة من داخله ويقرأ ما كُتب فيها :
” إليك عمر ..
إنني وإن قَضَتِ السنين على أن نفترق ، لم يفارق خيالك فكري ..
وإننا وإن شاءت الأقدار ألا نلتقي كنتُ ألقاك في كل حين ،، فأنت لم تفارق قلبي ولو للحظة واحدة …
لا أعلم ما سبب اختفائك تلك السنين كلها ولكنني أعلم أنها لم تكن إرادتك ،، وأنك عشتَ الحياة التي لا تريدُها كما أنني أعيشُ الحياة التي لا أريد ..
كنتُ بعثتُ لك ظرفًا من قبل ولكنه تأخر في الوصول إليك ولا أعلم ما السبب!
ولكني آمل أن يصلك هذا الظرف من دون تأخير.. فأنا أود لقاءك غدًا الساعة الخامسة مساءًا في المطعم الهندي على الطريق الثالث .. هناك بعض الحديث أود أن أفضي به إليك ..
سأكون هناك الساعة الخامسة تمامًا وسأنتظرك لربع ساعة وإن لم تصل سأغادر وسأفهم من ذلك أنها لم تصلك رسالتي في الوقت المناسب .. وكن دائمًا بخير والله يرعاك ..
ندى ”
تفقد ساعته بسرعة فإذا بالوقت يتجاوز الثانية ظهرًا .. وليس أمامه إلا أن يتجهز لذلك الموعد الذي انتظره منذ زمن طويل..
تجهز ولبس أحسن ما يجد في غرفته وتطيب بأجمل عطوره وركب سيارته متوجهًا إلى ذلك المطعم ،، وفي الطريق أتاه اتصالٌ من عمه ..
رد عليه فإذا به يسأله: أين أنت؟ نحن بانتظارك في المطار ستقلع الطائرة في تمام الساعة السادسة مساءً.. بسرعة احضر وإياك أن تتأخر…
يتبع…
[…] قصة قصيرة: في سبيل الحب ( الجزء الثاني) […]
إعجابLiked by 1 person