قصة قصيرة: في سبيل الحب (الجزء الثالث)

الفصل الأول: القرار الصعب..

وبعد أن أنهى الاتصال مع عمّه ، حار به تفكيره ولا يدري أيكمل طريقه ويذهب للقاءٍ انتظره منذ زمن أم يلبّي نداء عمه ويلحق به في المطار ..

فكّر في الأمر سريعًا وتذكر والديه وقلبه يعصره .. فعدّل اتجاه مركبته ولحق بعمّه!

 

وبعد أسبوعين عاد من سفره وذهب إلى أمه ليجلس إليها ويسألها فالكثير من الأحداث تمر عليه لا يعلم بينها رابطًا ولا سببًا ولعلها تعلم شيئًا لم تخبره به من قبل!

وفي البداية أخبرها بما كُتب في الظرف الأخير الذي وصل فإذا بها تصد بوجهها عنه وتلك هي ملامح الحسرة تظهر على قسمات وجهها ..  فزاد ذلك من تعجب عمر وفضوله في أن يعرف ما الأمر وما سر تلك الرسالة ..

فإذا بها تطرق قليلًا ثم تتحدث فتقول له : يا بني إنها منذ سنين طويلة يوم أن كُنْتُ في عزّ الصبا ولم أتزوج من أبيك بعد ، كانت لي صديقة لا أحسبها إلا كالأخت وأكثر تسكن هي وأهلها بجوار بيتنا ، وكانت تجمع بيننا كل الأوقات ولا نفترق إلا ما ندر ،، حتى جاء ذلك اليوم الذي تزوجَتْ فيه رجلاً عُرف عنه كثرة السفر .. وكنت أترقب سفره كل حين حتى أرى صديقتي وأجتمع معها كما كنا نفعل من قبل ..

وبعد أشهر رزقني الله بوالدك فتقدم لخطبتي والزواج بي وبعد فترة رزقنا الله أول مولود فكنت أنت ..

ومنذ أن تزوجتُ بوالدك ، انقطعتُ عن صديقتي ولم أرها بعد ذلك أبدًا ، ومرت الأيام .. وفي أحد الليالي جاءني طارق منها فأخبرني بأنها تبلغني السلام وتبعث لي برسالة وهدية .. ففتحت الرسالة فإذا بها توصيني بابنتها ، فإنها مصابة بمرض خبيث والطبيب لا يرى أنها ستعيش إلا بضع أشهر قلائل ..

وأنها فكرت في أمر ابنتها التي لم تتجاوز العامين فلم تر قلبًا سيحن عليها إلا قلبي ولا أمًّا سترعاها إلا أنا ..

فكنتُ لكما أمّا حانية وكنت أنظر لكما وأرعاكما بعين واحدة لا أفرق بينك وبينها في شيء أبدًا .. حتى بَلغَتْ سن السادسة فأتى أبوها من السفر بعد أن فتح الله له في تجارته ، ورزقه من حيث لا يحتسب فأخذ ابنته وحُرِمْتُ رؤيتها منذ تلك اللحظة!

ومنذ ذلك الحين وقلبي يتفطر عليك وعليها فقد كنتُ أشاهد كيف تلعبان وتأكلان وتنامان مع بعضكما البعض ، بل وكيف تعيشان حياة واحدة كأنكما جسد واحد .. ولكني كنت أعلم أن أباها سَيَمُنّ بها عليك ولن يسمح لك بأن تقترب منها أكثر فنحن لا نملك المال مثله وحالنا العالم به الله ..

فرأيت أن أكتم الأمر عنك كل السنين التي مضت وكنت أظن الأمر قد مضى وانتهى .. ولكني أخطأت حين ظننت أن الهوى في القلب بالبعد ينطفئ وبتعاقب السنين ينمحي!

كانت الكلمات تلك كالصواعق تنزل على قلب عمر وهو لا يدري ما يفعل وما الذي يخبئه له القدر!

الفصل الثاني: حين لا يبتسم القلب

وفي صباح اليوم التالي جاءه اتصال شخصي من عمه سليمان ليحضر إلى مكتبه الشخصي ..

وصل إليه وجلس إلى جانبه وهو لا يدري ما الأمر الذي من أجله استدعاه فتلك المرة الأولى التي يطلب منه الحضور إلى مكتبه فجأة من دون تنسيق سابق ..

ابتسم في وجه عمر ابتسامة يملأها الرضا وبدأه الحديث فقال: إنني أعلم يا عمر أنك بذلت الكثير من الجهد خلال الأشهر الماضية فأذهلتني بتفانيك وإخلاصك ولم تخيّب ظن من أوصاني بتوظيفك ، وإنني أود أن أشكر لك هذا الإخلاص والتفاني في العمل الذي تقوم به ، كما أود أن أكافئك على صنيعك بترقيتك ومضاعفة مرتبك الشهري ، على أن يكون ذلك حافزًا لك في بذل المزيد والإحسان في الأداء..

فتبسم عمر لسماع ذلك وتظاهر بالفرح فشكره على ثقته وكرمه ووعده أن يبذل المزيد وأن يكون عند حسن ظنه.. وتساءل بينه وبين نفسه ” يا تُرى من يكون ذلك الذي أوصى بي؟ ”

غادر بعد ذلك المكتب وكلمات أمه بالأمس لا تفارق مسامعه فقلبه يعصره من جهة وعقله ينازعه من الأخرى وهو في الوسط كالجريح الذي خارت قواه فلا يدري أيستسلم للقدر فيموت أم يتشبث ببقايا الحياة ويفُزّ بجسده!

وفي طريق عودته للبيت أتته رسالة على جواله من رقم لا يعرف صاحبه ..

 

” مساء الخير عمر..

في الغد عند الساعة الثامنة مساءً سأكون في انتظارك بقصر الأمل الواقع على الشاطئ الشمالي ..

رجائي ألا تتأخر في الحضور..

والد ندى.. ”

قرأ تلك الرسالة مرةً وثانية وثالثة مذهولا ولا يكاد يصدق عينيه!

الفصل  الثالث: “مستحيل”

وفي اليوم الذي يليه .. كان عمر على الموعد ولكنه وصل وحاله في ذهول شديد وتردد لا يعلم هل صحيح أنه يعيش واقعًا أم أنه في غيابات الأحلام يعيش …

دخل ذلك القصر المحاط بالزروع والنخيل والرمان والمزيّن بالأحجار الكريمة والأزهار والممرات التي يجري من تحتها الماء وتلونها الأسماك والمرجان..

دخل مجلس القصر فإذا به يلتقي عمه سليمان .. اندهش وجمدت عظامه وزادت الحيرة بقلبه وعقله..

جلس فإذا به يستلم القهوة ويشربها سريعًا فتكوي لسانه وتوقظ عقله الشارد ..

بدأ عمه سليمان بالحديث فقال :

“إنني قضيت السنين الطوال من عمري ألهث وراء المال لا همّ لي سوى أن أهب السعادة لابنتي فأعوضها عن فقدها لأمها في صغرها ، ولكنني وبعد هذه السنين الطوال وبعد أن سهرت وتعبت وسافرت وتغربت عن وطني اكتشفت أنني ما كنت إلا أسعى وراء سراب لن يروي ظمأ ابنتي مهما ركضت وراءه .. ”

“وإنني أود أن أختصر الحديث ولن أطيل أبدًا ، فالسنين علمتني أن الحكمة في أن نقاتل في سبيل غايتنا وأن نصل إليها لا أن نتهرب منها فنراوغ ونطيل الطريق!

لذلك فإنني قد دعوتك لأني أريد أن أحيي هذا القصر بالأرواح التي تحبها ابنتي وتبحث عنها منذ سنين .. وإنني أدعوك ووالديك للعيش معنا في هذا القصر فنكون كالعائلة الواحدة .. ”

توقف حينها نفس عمر من هول ما سمع ، فتفكر فيما قاله عمّه وتساءل بينه وبين نفسه “ما الذي يقصده بذلك” !

صمت قليلًا ثم نطق بصوت حانق : “مستحيل” !

“وهل غايتك بعد تلك السنين أن تجعل مني ومن والديّ خدم في قصرك !

وما الذي تقصده حين قلت إنك تريد إحياء هذا القصر؟ وهل خلت الدنيا من الناس فلم يبق إلا أنا ووالديّ لتستخدمنا في هذا القصر؟ ”

قفز حينها عمه سليمان من مقعده وقال له: مهلا يا بنيّ ، أرجوك ، لا تفهمني بشكل خاطئ ..

ثم أدخل يده في جيبه وأخرج ظرفًا صغيرًا فسلمه إليه ، وقال له :” اقرأ ما كتَبتْ إليّ ابنتي ندى قبل شهر لتعلم ما الذي كنتُ أقصده وما الذي فاتني كل تلك السنين الماضية أن أفهمه ” ..

أخذ عمر الظرف وفتحه وأخرج ما بداخله وبدأ يقرأ …

الفصل الرابع: حين يتكلم القلب ..

” أبي إنني لا أقدر على الكلام فالبوح يخنقني وإنني أكتب لك بمداد قلبي الذي عاش طويلًا ينبض بلا روح تقاسمه جمال العيش وألمه ..

أبي إنني أعلم كم تحبني وكم تسعى وتتعب في سبيل سعادتي وراحتي ..

أبي إنني أحبك حب البنت لأبيها حينما تعجز الكلمات أن تصف ذلك الحب وتعجز الموازين أن تزنه ويعجز البوح أن يتحدث به ..

أبي أرجوك حررني من قيود نفسي ودعني أبوح لك بحبي الذي كتمته طويلًا جدًا لأني ما كنت أعلم ما الحب وما هو ذلك الشعور الذي يخالط قلبي عند كل لحظة أراك فيها بعد غيابٍ طويلٍ كنتُ أنتظرك فيه بشوق..

أبي إنني أحبك ولم أكن أعلم ما الذي أفتقده حين تغيب عني ، لأنني كنت أقلب كل شيء حولي فلا أجد شيئا ينقصني ،، فالجواهر والملابس والمال وكل شيء أستطيع شراءه كنتُ أجده بجانبي …

ولكن أنت يا أبي لم أكن أستطيع شراءك أو شراء وقتك للجلوس إليك وما كنت أستطيع شراء ما يشابهك لأحدثه وأفضفض له فأخبره بما كنت أحلم وبما كنت أرى وماذا كنت أفعل في صباحي ومسائي..

أبي إنني وبعد تلك السنين كلها وجدت ما كنت أفتقده ،، وجدت ما كنت أحتاجه ولم أكن أعلم حينها ما هو !

أبي إنني أحتاج إلى روحك بجانبي دائمًا ، فمنذ رحلت أمي عن الدنيا  فَقَدَتِ الدنيا بريقها وفقدتُ روحي معها ، وما زلت أجلس إلى الناس أتظاهر بسعادتي وأغطي خداعي إياهم بالمال الذي تبعثه إليّ كل شهر ، حتى صدقوني ولكنّ نفسي أبت أن تصدقني وتعيش تلك السعادة التي كانت تُصورها لجميع من حولها حتى صدقوها وقبلوها ..

أبي إنني ما زلت أذكر حضن أمي التي ماتت وحضن أمي الأخرى التي فقدتها حين انتقلتُ إلى هذا القصر من سنين ..

أبي إنني أذكر ذلك الطفل الذي عشتُ معه طفولتي وفقدتُ روحي مرةً أخرى حين لم أجده بجانبي لألعب معه وحين لم أجده بجانبي ليمسح دمعتي حين أسقط فيبكيني الألم …

أبي إنني منذ ذلك الحين لا أجد في محجر العين دمعًا ولكنني أجد في القلب نشيجًا يتجلجل قد كتب الزمان عليه الحرمان والصمت ..

أبي إنني منذ أشهر وجدت الروح التي فقدتها في صغري وكبرت وأنا أشتاق لها كل لحظة ،، وحين رأيتها بعينيّ عادت الروح إلى قلبي فتأكدت أنها ذاتها الروح التي كنت أشم عطرها في طفولتي وأتنسم عبق قربها حين كنت أنام على الأرض ممددة لا تحيط بي جدران صامتة ولا تخنقني أسوار القصر العالية!

أبي إنني أتذكر حين كنّا ننام في حضن أمي ونصحو ونحن ممددون على الأرض يلفنا غطاء واحد ونتوسد المخدة ذاتها .

أبي إنني أصل لختام بوحي وما أظنك إلا قد فهمت منه مقالتي ومرادي .. فإن كنتَ ضَنَنْتَ عليّ بذلك سنين ماضية فرجائي أن لا تَضِنّ به عليّ أكثر.. وثق بأني أحبك وسأحبك للأبد ..

 

ابنتك ندى ” ..

 

تمّت


إن أعجبتك القصة فكُنْ جُزْءًا مِنْ هَذِهِ المُدَوَّنَةِ، وَسَاهِمْ بِنَشْرِهَا .. فَقَد تَصْنَع يَوْمَ أحَدهم وَربّمَا حَيَاتَه 🌹

10 أفكار على ”قصة قصيرة: في سبيل الحب (الجزء الثالث)

  1. سلامٌ على كل حرف نسجته بإبداع ..
    لتتكون تلك الصورة وتتمها بهذا التناسق والتباين؛ إن تكن تلك أول مرّة لك في السرد القصصي..
    فهل ليّ أن أقول لك: أبدعت ي أستاذ 👏🏻❤️..

    ***
    أول ما قرأت العنوان على عجل ( قرأته في سمو الحب ) وليس في سبيل الحُب ؛ فكنت أظن أنه تحليل لنص قرأته لرافعي..
    لكن ادهشتني منذ بداية النص .. كنت سعيدة وأنا أقرأ؛ لسببان أولهما أنني كنت موقنه بإنك ستوصل شيء جميل في النهاية والآخر أنا الآن أقرأ شيء مختلف لك عن العادة ..

    ***
    فقد احببت العناوين المتفرعه، من وجهة نظري تعطي جمال لسرد القصصي.
    وكذلك كانت القصة متناسقه في الطرح واختيار العبارات تبعد عن التفاصيل المملة التي تكون غير مرغوبه في القصة القصيرة..
    التعريف بالشخصيات كان يأتي في الوقت المناسب 👌🏻..

    أتدري دائما ما أقدس النهايات المفتوحة ؛ تبقى في عمق الذاكرة ..
    وقد كانت نهاية ما رويته تتحدث أكثر من نص ندى ! 💕..

    لأخبرك عن نهاية مذهلة من كتاب روائع القصص العالميّة : ” القناص ” ..
    كبرت ولم تكبر دهشتي حينما أكرر قراءة القصّة وتلك النهاية .. ، لتقرأها من هنا :

    https://books.google.com.sa/books?id=IpzfDQAAQBAJ&pg=PT139&lpg=PT139&dq=القناص+القصص+العالمية&source=bl&ots=dtlWz74JQ6&sig=oJKxVEPeLzQ_Ga3z3DfTOV08LQk&hl=en&sa=X&redir_esc=y#v=onepage&q=القناص%20القصص%20العالمية&f=false

    الدهشة التي تصاحب النص الأدبي؛ كـ لقطة سينمائية مُبهره أحب أن اشاركها الجميع ✨💘..
    ****

    والآن ، اسمح ليّ بهذهِ الملاحظة الصغيرة قد أكون سددت بها وقد لا تكون لوحظت أبدًا🙏🏻💛..
    الانتقال ما بين الجزء الثاني والثالث لم يكن بالسلاسة ذاتها حينما انتقلت من الجزء الأول إلى الثاني ..
    لعل الأحداث كانت سريعة في النهاية؛ لكن هذا لا ينفي أبدًا الجمال النصي..

    شكرًا لك، دمت مُبدعًا ي أستاذ 🙏🏻✨

    اعتذر ع الإطاله …

    Liked by 1 person

  2. السلام عليكم ياحمزة أنا عبدالله، تشاركنا ساعات على طاولة واحدة في دورة مسك.
    النص أذهلني وحرك أشجاني وأسترسل في لساني، النص جميل جدًا ولست أجامل، جمالك الأدبي مع القصة البسيطة والمفاجأت العديدة في القصة كونت نص مذهل لايقل إذهالًا عن شخصك الكريم، ستبقى هذه القصة في بالي وقتًا طويلًا، ستبقى أدبًا أحاول عبثًا تقليده، وشخصياتٍ أحاول أن اصنع أندادًا لها، لا أقول أن القصة كاملة فالكمال صفة الكامل عز وجل، فالإنتقال بين الجزء الثاني والثالث كان ركيكًا بعض الشيء، وددت لو أضفت مزيدًا من الوصف السردي للأماكن.
    تقبل أعز تحاياي
    عبدالله الباحوث

    Liked by 1 person

    • وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
      حياك ربي وأبقاك حبيبي عبدالله وممتن لتلك الساعات التي عرّفتني بك ..💜✨

      الله يسعد قلبك كما أسعدتني بقراءتك ونقدك لما كتبت وشاكر وممتن لذاتك الكريمة 💜🙏🏻

      Liked by 1 person

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s